والله خير وأبقى
|
هذه العبارة الموجَزة كانت جزءًا لَهِجَت به ألسنة السَّحَرة أمام فرعون بعد أن توعَّدهم بسوء العذاب. (قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمْ الَّذِي عَلَّمَكُمْ السِّحْرَ فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)) (طه).. (وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى). كُليمات قليلة، لكنها تحمل معاني عظيمةً، وكيف لا وهي تقول لكل ظالم إنَّ لظلمك حدودًا لا يمكنك تجاوزَها، فمهما بلغت سلطتك ومهما منعت فلن تستطيع أن تمنع قلبًا من الاتصال بربه، ولن تستطيع أن توقف فيضَ السكينة والحنان واللطف والرحمة الإلهية التي يغدق بها المولى على قلوب أحبابه. وهي سلوى لكل من أجبر على ترك داره ووطنه وأصدقائه وأحبابه، فباب المحبوب الأعظم لا يمكن لأحد أن يغلقه أو يحول دونه، فهو يتجاوز حدودَ الزمان والمكان (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً(9)) (المزمل: 9). وهي عبارة عظيمة ترْبِتُ على كتف كل مبتلًى، فتذكره بأن أعظم حرمان يمكن أن يُحرمَه هو أن يُحرَمَ من الله؛ فمَن فَقَدَ اللهَ فَقَدْ فَقَدَ كلَّ شيء ومن وجد الله وجد كل شيء.. ألم يقل حبيبنا محمد- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- لربه بعد حادث الطائف وما تعرض من إيذاء واستهزاء "إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي"؟! من هناك ندركُ بعضًا من معاني التوجيه النبوي: "تعرَّف على الله في الرخاء يعرفْك في الشدة"، فلا بد أن نتعرَّف على الله، وأن تنشأ بيننا وبينه علاقةٌ متينةٌ ليصبح سبحانه نِعْمَ الصاحب في السفر، والرفيق في الطريق، والأنيس في الخلوة. ولئن كنا لا نستطيع أن نصل إلى مرتبة الخلّة مع الله، ففي مرتبة الصحبة متسَعٌ لنا جميعًا إن أردنا ذلك بصدق، وتحركنا نحو الوصول إليها من خلال التعرف الصحيح عليه سبحانه. تأمَّل معي قوله تعالى: (أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ(43)) (الأنبياء)؛ أي أن هناك مَن يُصحب وهذا ما يدل عليه مفهوم المخالفة من هذه الآية كما يقول الإمام ابن القيم. وعندما يمنُّ الله- عزَّ وجلَّ- على عبدٍ من عباده بهذه النعمة فإن ذلك لهو الفوز العظيم في الدنيا قبل الآخرة، ولِمَ لا وقد دخل العبدُ بهذه الصحبة جنة الدنيا، وذاقَ حلاوةً لا يوجد لها مثيلٌ، وتمتَّعَ بعزِّ الاكتفاء بالله والاستغناء به عن كل ما سواه. فإن أصابه مكروه ردَّد (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) (التوبة)، وإن تشابكت أمامه الأحداث قال: (إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) (الشعراء: من الآية 62)، وإن تعرَّض لظلمٍ ولم يستطع الدفاع عن نفسه تذكَّر (وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) (الفتح: من الآية 28)، يردِّد دائمًا مثل قول الشاعر: فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب إذا صحَّ منك الودُّ فالكل هيِّن وكل الذي فوق التراب تراب فهو دائمًا في رغبةٍ نحو ربه، يسعد بمناجاته، ويكلمه على الحضور، ويبث إليه شكواه، وكلما استبدَّ به الشوقُ إليه هرَع نحو كتابه يقرأُه بتلهُّف وفرَح، فينسكب داخله شراب الأنس والسرور به سبحانه فتهدأ ثائرة أشواقه- ولو قليلاً- ويتملكه شعور عجيب بأن الدنيا كلها قد أصبحت تحت قدميه، وأن الله خيرٌ وأبقى، فيبتسم ابتسامة الراضي عن ربه، المتشوق للقائه. |