الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
فقد أحاط الله -سبحانه وتعالى- علمًا بجميع المعلومات من ماضٍ وآتٍ، فعلم الله الأمور التي لم تقع لو قُدر لها أن تقع كيف كانت، مع أن احتمالاتها آلافًا مؤلفة، فقد علم الله -سبحانه وتعالى- الأمور الظاهرة والباطنة، والمتحركة والساكنة، الجليل منها والحقير، الكبير منها والصغير، وليس كما تقول الفلاسفة: "إنه عالم بالكليات دون الجزئيات"! بل هو -عز وجل- لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض
فقد أحاط الله -سبحانه وتعالى- علمًا بجميع المعلومات من ماضٍ وآتٍ، فعلم الله الأمور التي لم تقع لو قُدر لها أن تقع كيف كانت، مع أن احتمالاتها آلافًا مؤلفة، فقد علم الله -سبحانه وتعالى- الأمور الظاهرة والباطنة، والمتحركة والساكنة، الجليل منها والحقير، الكبير منها والصغير، وليس كما تقول الفلاسفة: "إنه عالم بالكليات دون الجزئيات"! بل هو -عز وجل- لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض
ويعلم -عز وجل- بسابق علمه عدد أنفاس خلقه: كم يتنفس الواحد منا في الدقيقة؟ فكم في الساعة؟ فكم في اليوم؟ فكم في السنة؟ لا يحيط العباد بذلك، ثم ينتهي ذلك مع نهاية عمره، فتتوقف رئتيه عند آخر نفس مكتوب له، ويتوقف قلبه عند آخر دقة من دقاته المقدرة له، فللإنسان أنفاس ودقات قلب معدودة يستهلكها، يهدم كل يوم جزءًا منها، وقد علم الله -عز وجل- ذلك كله قبل أن يولد الإنسان، فعلم حركاته وسكناته، مما يلتفت إليه الإنسان ويشعر به، ومما لا يشعر به؛ فأجزاء جسم الإنسان تتحرك كثيرًا جدًّا وهو لا يشعر.
علم أعمال العباد:
علِم الله -سبحانه وتعالى- أعمال العباد، وهي أضعاف ما سبق؛ إذ إن أعمال البشر تقع في كل مكان في الأرض، وفي كل زمان، سواء أكان مضى أو فيما لا لم يمض، أو فيما هو آتٍ، والله -سبحانه وتعالى- قد أحاط علمًا بذلك كله.
علم الأرزاق والآجال:
علِم الله -سبحانه وتعالى- الأرزاق والآجال، ومن هو منهم من أهل الجنة، ومن هو منهم من أهل النار، واستأثر الله -عز وجل- بمفاتح الغيب الخمس: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34].
وقد يُعلم الله -سبحانه وتعالى- مَن شاء بما شاء مِن بعض ذلك دون أن يطلعه على تفاصيل الغيب، فكما أطلع عباده على وجود أمور من الغيب تقع: كقيام القيامة، والبعث، والنشور، والجنة والنار، وأخبر على ألسنة الرسل بما هو آتٍ؛ إلا أنه لا يعلم البشر ولا حتى الرسل متى يقع ذلك؟
وقد يخبر الله -سبحانه وتعالى- عن بعض تفاصيل ذلك لبعض خلقه، كما يُطلع الملائكة ويأمرهم أن يكتبوا للجنين في بطن أمه قبل ولادته أجله ورزقه وشقي أم سعيد؟ لكن ذلك كله معلق على مشيئته، فإن شاء أمضاه، وإن شاء محاه: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39].
فمفاتح الغيب الخمس على عمومها لا يعلمها إلا الله، وهذه الآية لا تخصص، بل قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ اللَّهُ: لا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلاَّ اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ إِلاَّ اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي الْمَطَرُ أَحَدٌ إِلاَّ اللَّهُ، وَلا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَلا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ اللَّهُ» [رواه البخاري].
قال قتادة -رحمه الله-: "أشياء استأثر الله بهن، فلم يُطلع عليهن مَلَكا مقربًا، ولا نبيًّا مرسلاً: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} فلا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة، في أي سنة أو في أي شهر، أو ليل أو نهار؟ {وَيُنزلُ الْغَيْثَ} فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث، ليلاً أو نهارًا. {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ} فلا يعلم أحد ما في الأرحام، أذكر أم أنثى، أحمر أو أسود، وما هو؟ {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} أخير أم شر، ولا تدري يا ابن آدم متى تموت؟ لعلك الميت غدًا، لعلك المصاب غدًا. {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض، أفي بحر أم بر، أو سهل أو جبل؟" [تفسير ابن كثير 6/355].
فهذه الخمس لا يعلمها إلا الله، وليس كما يظن البعض أن قوله -تعالى-: {إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 27]، يقتضي أن الله -عز وجل- قد يطلع بعض عباده على تفاصيل مفاتيح الغيب الخمس، فكما ذكرنا فهو وإن اطلع على تفاصيل شيء من ذلك فليس مجزومًا به، بل يمكن أن يتغير إذا أراد الله -سبحانه وتعالى-، فالكتاب الأول هو أم الكتاب، وأما الكتب الأخرى فهي التي بأيدي الملائكة.
وما أطلع الله عباده عليه فإنه قابل للتغيير، معلق على مشيئته -سبحانه وتعالى-، فالله -عز وجل- هو الذي يعلم: أينفذ هذا الأمر أم لا؟ كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول قبل يوم بدر: «هَذَا مَصْرَعُ فُلانٍ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ» [رواه مسلم]، فليس ذلك بمعارض بقول الله -عز وجل-: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين أخبر عن أماكن موتهم ووقته فإنما علق ذلك على مشيئة الله -سبحانه وتعالى-، فهذا مما شأنه التفصيل.
أما ما شأنه الإجمال فإنه يخبر بشيء مفصلاً ويُبقي جزءًا كبيرًا مجملاً غير معلوم في علم الغيب لا يعلمه إلا الله -سبحانه وتعالى-، كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بموته، ثم فتح بيت المقدس، وذكر كثيرًا جدًّا من أشراط الساعة دون أن يحدد بالتفصيل متى تقع؟ إنما يذكرها إجمالاً، كما ذكر -صلى الله عليه وسلم- أخبار الدجال، ونزول عيسى ابن مريم، لكن متى يحدث ذلك؟
فالله -عز وجل- أعلى وأعلم، فلا يدري أحد شيئًا عن مفاتيح الغيب الخمسة على وجه الجزم والقطع، وإن علم شيئًا بالتفصيل فمعلق على مشيئته وإمضائه -عز وجل- له، وإذا علم شيئًا مجزومًا بوقوعه.. فنحن لا ندري مِن التفصيل ما يخرج به الأمر عن حكم الغيب، ويظل جزءًا كبيرًا منها أمرًا مجهولاً انفرد الله -عز وجل- به وحده لا شريك له.
وهذا فيما يتعلق بمفاتح الغيب التي ذكرها الله -عز وجل- في كتابه، إذ قال: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]، وإن العبد لا ينتهي تعجبه لما يتأمل هذه المعاني التي ذكرها الله -عز وجل-.. فكم من ورقة تسقط؟ وكم مرة تتقلب فيما بين سقوطها من الشجرة إلى سقوطها على الأرض؟! أحاط الله -عز وجل- علمًا بذلك، وما أحاط به العباد.
(وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ): فقد كتب الله في الكتاب المبين كل شيء يبقى حيًّا رطبًا أو ييبس فيموت، فقد علم الله -سبحانه وتعالى- تفاصيل كل شيء من خلقه.
فما مِن جبل إلا ويعلم ما في وعره -في بطنه-، ولا يحيط البشر علمًا به، وما من بحر إلا ويعلم ما في قعره -أي باطنه-، ولا يحيط علم العباد بذلك، وإذا علموا شيئًا مِن ذلك فهو بالنسبة إلى ما يجهلونه كالنقطة في البحر، كما قال الخضر لموسى -عليهما السلام- حين وقف عصفور على السفينة فأخذ قطرة من البحر فقال: «مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ مِثْلُ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ» [رواه البخاري ومسلم].
قال -تعالى-: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ}، كل هذه المعاني أشار إليها القرآن، فانظر إلى هذه الكائنات المختلفة وما تحمله في بطونها، ليس فقط الإنسان، ولكن جميع الإناث من سائر الكائنات، لا تحمل ولا تضع إلا بعلمه -عز وجل-، فقد علم -سبحانه وتعالى- كل شيء عن هذا الكائن، فالله -سبحانه وتعالى- يعلم عمله ورزقه، وشقي أم سعيد؟ ويعلم هذا الجنين: أذكر هو أم أنثى؟
وعصف ببعضهم الشك فقال: "قد علمنا بالطب الحديث نوع المخلوق في بطن الأنثى: أذكر أم أنثى؟".
وذلك في الحقيقة من الجهل بما ذكر الله -عز وجل-، وبما اطلع عليه الناس في المعارف الحديثة، فعلم الإنسان بما في بطن الأنثى إنما يكون بعد تكونه وحصوله، أما علم الله -عز وجل- فسابق على وجوده، فإنما يأمر الله الملك أن يشكله ذكرًا أو أنثى.
وما يظنه البعض من أن الإنسان إنما نوعه محدد قبل وجوده -أي: قبل وجود الجسد والأعضاء-، وأنه يمكن أن نعرف ذلك بأن تحلل -مثلاً- الخلايا، ويُعرف إذا كان ذكرًا أم أنثى؟ وظنوا أن ذلك يعارِض ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فذلك بسبب قلة العلم، بل إنه كلما اتسع علم الإنسان؛ كلما علم صِدْق ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فحقًا إن الإنسان إنما هيئ ليكون أحد النوعين منذ أن التقى الحيوان المنوي بالبويضة كان مهيئًا لأن يكون ذكرًا أو أنثى بحسب نوع "الكروموسومات" -كما يقولون- في الحيوان المنوي، أهي "كروموسومات" ذكر أم أنثى؟ ولكن مع ذلك لا يستطيع أحد أن يجزم بنوع الجنين في المراحل الأولى قبل تكون الأعضاء، وهو علم الغيب الذي استأثر الله -عز وجل- به.
وهذه "الكروموسومات" قابلة للتغير في الأسبوع السابع، كما اكتشفوا ذلك مؤخرًا؛ إذ يفرز نوع من الهرمونات والإنزيمات تتحكم في التشكيل بأمر الله -سبحانه وتعالى-، وهو الذي ينبني عليه تشكيل الأعضاء الذكرية أو الأنثوية، فإذا كان تركيب الجين أنثويًّا فإنه يترتب على هذا الهرمون أو الإنزيم أن تنمو الأعضاء الذكرية أو الأنثوية، فلو كان التركيب أنثويًا ولكن نقص هذا الهرمون فإنه يترتب عليه أن تنمو الأعضاء الذكرية ويصبح ذكرًا وإن كان تركيبه الجيني أو الكروموسومي تركيبًا أنثويًّا، وكذا بالعكس: لو كان تركيبًا ذكريًّا، ولكن نقص هذا الهرمون فإنه يترتب عليه تكوُّن الأعضاء التناسلية تكوّنًا أنثويًّا. فهذا الأمر عجيب للغاية! رغم أن الناس ظلوا لفترة ليست بالقصيرة يظنون أن مجرد تلقيح البويضة بحيوان منوي معين يترتب عليه تحديد جنس الجنين، فليس الأمر كذلك، بل هناك عوامل أخرى.
والعجيب.. أن ظهور هذا الأمر وظهور هذه العوامل الأخرى إنما يكون في الأسبوع السابع! مصداقًا لما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: «إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً؛ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا مَلَكًا فَصَوَّرَهَا، وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعِظَامَهَا» [رواه مسلم].
فبعد اثنين وأربعين يومًا -أي: بعد ستة أسابيع بالضبط-، بعد هذا التاريخ يبدأ تشكيل الأعضاء الأنثوية أو الذكرية، فتشكل الأعضاء خلال الأيام والأسابيع الأولى موجود، ولكنه متماثل تمامًا بين الذكر والأنثى بلا أدنى فرق إلى أن يبدأ الأسبوع السابع فتبدأ الأعضاء في التغير، فهذا يتجه إلى الذكورة وذلك إلى الأنوثة.
والأغلب الأعم أنه بحسب التركيب المعتاد في النطفة الأولى، ولكن من الممكن أن يتغير، فمن الممكن أن يأخذوا عينة من الجنين وهو ذكر ويكون تركيب الخلايا تركيبًا أنثويًّا، وذلك لأنه في عمر الاثنين والأربعين يوم أو الستة أسابيع كانت نسبة هذا الهرمون مرتفعة، وكان تركيب الخلايا أنثويًّا، فلما زاد عنده؛ أصبحت خلاياه ذكرية وإن كان لا يلد ولا يكون مؤهلاً للولد، وإنما يكون عقيمًا.
فسبحان الله! كلما ازداد علم الإنسان بشيء؛ ازداد يقينًا بأنه يجهل، وأما الكفرة والزنادقة وأنصاف المتعلمين -بل أرباعهم، بل أدنى من ذلك- فهم الذين يظنون أن العلم الحديث أوشك أن يصنع ذبابًا! حتى إن كافرًا منهم في يوم من الأيام قال: "إن العلم الحديث أوشك أن يصنع ذبابًا"! وهذا من عظيم جهله؛ إذ إن العلم كلما تقدم يجزم أهله بأننا لا نستطيع أن نعمل شيئًا مثل صنع الله -سبحانه وتعالى-، ولا قليل منه، ولا أدنى من ذلك.
فالذي يستطيعه البشر هو أن يوفروا الظروف المهيئة؛ كي تستمر عملية الخلق كما أراد الله -عز وجل-، ومِن ثَمَّ فعلم الإنسان يجب أن يكون دافعًا له لزيادة إيمانه، فكلما ازداد علمًا؛ ازداد إيمانًا ويقينًا بأن هناك إتقان تام، وهذا لا يمكن أن يصدر عن صدفة -كما يزعمون بجهلهم-، ولكنه الطمس على البصيرة، ولولا ذلك؛ لكانت هذه العلوم بما في رحم كل أنثى وما تحمل وما تضع سبيلاً لإيمان من يؤمن، ولكن {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7].
فالإنسان إذا تأمل في قوله -تعالى-: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} [فاطر: 11]، فلا ينبغي أن ينصرف خاطره إلى هذه الجزئية الصغيرة فقط -التي هي سبب الذكورة والأنوثة-؛ فضلاً على أن ذلك الأمر -أيضًا- قد أحاط الله -عز وجل- به علمًا، والبشر لا يعلمونه إلا بعد أن يكوِّنه الله، وبعد أن يقع كسائر المعلومات التي لا يعلمها الناس إلا بعد أن تقع، ولو علموا لم يعلموا منها إلا شيئًا يسيرًا شاء الله لهم أن يعلموه، فضلاً عن أنهم لا يعلمون عنها كل التفاصيل.
يقول الله -عز وجل-: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر: 11]، فأما النقص في العمر والزيادة فيه؛ فهذا من جنس ما لم يكن لو كان كيف يكون، نعني أنه نقص نسبي، وكذا الطول والتعمير، فقد يكون العمر نسبيًّا -أي: بالنسبة إلى ما كان يمكن أن يقع لو لم يكن ذلك بشيء-، فالله -عز وجل- يقدر الأمور بأسبابها، وهو أعلم بما يكون عليه الأمر لو لم تقع هذه الأسباب.
فهذا قد زاد الله في عمره؛ لأنه وصل رحمه، فعمره في علم الله الأول كذا من السنين الطوال، فالله قدَّر له في الأصل عمرًا بلا سبب، وآخر طويلاً بسبب أنه واصل لرحمه بار بوالديه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ رِزْقُهُ، أَو يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ؛ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» [متفق عليه].
ولو أطاع قوم نوح الله؛ لأخرهم إلى أجل مسمى، ولكنهم عصوا الله فنقصت أعمارهم عما كان من الممكن أن تكون لو أنهم أطاعوه.
ولو لم يعط آدم -عليه السلام- ابنه داود أربعين من سنة من عمره -كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح-؛ لظل عمره بلا نقصان.
فالأمور بأسباب، وبعضها بغير سبب، بل هي هبة من الله -عز وجل-؛ ولذلك نقول: "إن النقص هنا على حقيقته، ولكنه نسبي". والبعض يقول: "إن الزيادة والنقصان في البركة بزيادة البركة أو قلتها"، وهذا وإن كان صحيح المعنى، ولكن اللفظ يحتمل أوسع منه، وهو ما ذكرنا من معناه الحقيقي من التعمير، فالزيادة والنقصان حقيقة نسبة إلى ما كان يمكن أن يقع لو غيَّر الله هذه الأسباب، كما نقول -مثلاً-: ماذا لو لم يقتل القاتل المقتول؟ الله أعلم، فقد علم -سبحانه وتعالى- ما لم يكن لو كان كيف يكون؛ إلا أن مَن كتب الله عليه القتل فلا بد أن يخرج إلى مضجعه؛ ليقتل {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154].
فإذا كان الله قد كتب القتل على الإنسان فنجا ممن يريدون قتله؛ لأدركه في النهاية واحد يقتله -لأنه مكتوب عليه القتل-، فلا بد أن ينال ما قدَّر الله له، وما كتبه -سبحانه وتعالى-، وأما إذا لم يقع ذلك كله فلا ندري؛ لأننا لا نعلم ما الذي كتبه الله -سبحانه وتعالى- لنا، فقد علم الله ما لم يكن لو كان كيف يكون!
فإذا سئلنا هذا السؤال الذي داعب أذهان البعض منا: "ماذا لو أن القتيل لم يقتله القاتل؟". فلا نقول: "كان مات وحده"، ولكن نقول: إنه من الممكن أن يموت وحده، أو يتأخر؛ لأن الله هو الذي يعلم أجله إذا لم يقتله القاتل.
فكل هذه الأمور مقدرة بأسبابها، والله -عز وجل- هو الذي أحاط علمه بذلك -سبحانه وتعالى-، وقد كتب ذلك في اللوح المحفوظ، فكتب مقادير الخلائق، وكتب أسبابها.
{إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر: 11].
علم أعمال العباد:
علِم الله -سبحانه وتعالى- أعمال العباد، وهي أضعاف ما سبق؛ إذ إن أعمال البشر تقع في كل مكان في الأرض، وفي كل زمان، سواء أكان مضى أو فيما لا لم يمض، أو فيما هو آتٍ، والله -سبحانه وتعالى- قد أحاط علمًا بذلك كله.
علم الأرزاق والآجال:
علِم الله -سبحانه وتعالى- الأرزاق والآجال، ومن هو منهم من أهل الجنة، ومن هو منهم من أهل النار، واستأثر الله -عز وجل- بمفاتح الغيب الخمس: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 34].
وقد يُعلم الله -سبحانه وتعالى- مَن شاء بما شاء مِن بعض ذلك دون أن يطلعه على تفاصيل الغيب، فكما أطلع عباده على وجود أمور من الغيب تقع: كقيام القيامة، والبعث، والنشور، والجنة والنار، وأخبر على ألسنة الرسل بما هو آتٍ؛ إلا أنه لا يعلم البشر ولا حتى الرسل متى يقع ذلك؟
وقد يخبر الله -سبحانه وتعالى- عن بعض تفاصيل ذلك لبعض خلقه، كما يُطلع الملائكة ويأمرهم أن يكتبوا للجنين في بطن أمه قبل ولادته أجله ورزقه وشقي أم سعيد؟ لكن ذلك كله معلق على مشيئته، فإن شاء أمضاه، وإن شاء محاه: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39].
فمفاتح الغيب الخمس على عمومها لا يعلمها إلا الله، وهذه الآية لا تخصص، بل قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ اللَّهُ: لا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلاَّ اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ إِلاَّ اللَّهُ، وَلا يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي الْمَطَرُ أَحَدٌ إِلاَّ اللَّهُ، وَلا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَلا يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ اللَّهُ» [رواه البخاري].
قال قتادة -رحمه الله-: "أشياء استأثر الله بهن، فلم يُطلع عليهن مَلَكا مقربًا، ولا نبيًّا مرسلاً: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} فلا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة، في أي سنة أو في أي شهر، أو ليل أو نهار؟ {وَيُنزلُ الْغَيْثَ} فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث، ليلاً أو نهارًا. {وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرْحَامِ} فلا يعلم أحد ما في الأرحام، أذكر أم أنثى، أحمر أو أسود، وما هو؟ {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} أخير أم شر، ولا تدري يا ابن آدم متى تموت؟ لعلك الميت غدًا، لعلك المصاب غدًا. {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} ليس أحد من الناس يدري أين مضجعه من الأرض، أفي بحر أم بر، أو سهل أو جبل؟" [تفسير ابن كثير 6/355].
فهذه الخمس لا يعلمها إلا الله، وليس كما يظن البعض أن قوله -تعالى-: {إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 27]، يقتضي أن الله -عز وجل- قد يطلع بعض عباده على تفاصيل مفاتيح الغيب الخمس، فكما ذكرنا فهو وإن اطلع على تفاصيل شيء من ذلك فليس مجزومًا به، بل يمكن أن يتغير إذا أراد الله -سبحانه وتعالى-، فالكتاب الأول هو أم الكتاب، وأما الكتب الأخرى فهي التي بأيدي الملائكة.
وما أطلع الله عباده عليه فإنه قابل للتغيير، معلق على مشيئته -سبحانه وتعالى-، فالله -عز وجل- هو الذي يعلم: أينفذ هذا الأمر أم لا؟ كما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول قبل يوم بدر: «هَذَا مَصْرَعُ فُلانٍ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ» [رواه مسلم]، فليس ذلك بمعارض بقول الله -عز وجل-: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} فإن الرسول -صلى الله عليه وسلم- حين أخبر عن أماكن موتهم ووقته فإنما علق ذلك على مشيئة الله -سبحانه وتعالى-، فهذا مما شأنه التفصيل.
أما ما شأنه الإجمال فإنه يخبر بشيء مفصلاً ويُبقي جزءًا كبيرًا مجملاً غير معلوم في علم الغيب لا يعلمه إلا الله -سبحانه وتعالى-، كما أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بموته، ثم فتح بيت المقدس، وذكر كثيرًا جدًّا من أشراط الساعة دون أن يحدد بالتفصيل متى تقع؟ إنما يذكرها إجمالاً، كما ذكر -صلى الله عليه وسلم- أخبار الدجال، ونزول عيسى ابن مريم، لكن متى يحدث ذلك؟
فالله -عز وجل- أعلى وأعلم، فلا يدري أحد شيئًا عن مفاتيح الغيب الخمسة على وجه الجزم والقطع، وإن علم شيئًا بالتفصيل فمعلق على مشيئته وإمضائه -عز وجل- له، وإذا علم شيئًا مجزومًا بوقوعه.. فنحن لا ندري مِن التفصيل ما يخرج به الأمر عن حكم الغيب، ويظل جزءًا كبيرًا منها أمرًا مجهولاً انفرد الله -عز وجل- به وحده لا شريك له.
وهذا فيما يتعلق بمفاتح الغيب التي ذكرها الله -عز وجل- في كتابه، إذ قال: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59]، وإن العبد لا ينتهي تعجبه لما يتأمل هذه المعاني التي ذكرها الله -عز وجل-.. فكم من ورقة تسقط؟ وكم مرة تتقلب فيما بين سقوطها من الشجرة إلى سقوطها على الأرض؟! أحاط الله -عز وجل- علمًا بذلك، وما أحاط به العباد.
(وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ): فقد كتب الله في الكتاب المبين كل شيء يبقى حيًّا رطبًا أو ييبس فيموت، فقد علم الله -سبحانه وتعالى- تفاصيل كل شيء من خلقه.
فما مِن جبل إلا ويعلم ما في وعره -في بطنه-، ولا يحيط البشر علمًا به، وما من بحر إلا ويعلم ما في قعره -أي باطنه-، ولا يحيط علم العباد بذلك، وإذا علموا شيئًا مِن ذلك فهو بالنسبة إلى ما يجهلونه كالنقطة في البحر، كما قال الخضر لموسى -عليهما السلام- حين وقف عصفور على السفينة فأخذ قطرة من البحر فقال: «مَا عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ مِثْلُ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنْ هَذَا الْبَحْرِ» [رواه البخاري ومسلم].
قال -تعالى-: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ}، كل هذه المعاني أشار إليها القرآن، فانظر إلى هذه الكائنات المختلفة وما تحمله في بطونها، ليس فقط الإنسان، ولكن جميع الإناث من سائر الكائنات، لا تحمل ولا تضع إلا بعلمه -عز وجل-، فقد علم -سبحانه وتعالى- كل شيء عن هذا الكائن، فالله -سبحانه وتعالى- يعلم عمله ورزقه، وشقي أم سعيد؟ ويعلم هذا الجنين: أذكر هو أم أنثى؟
وعصف ببعضهم الشك فقال: "قد علمنا بالطب الحديث نوع المخلوق في بطن الأنثى: أذكر أم أنثى؟".
وذلك في الحقيقة من الجهل بما ذكر الله -عز وجل-، وبما اطلع عليه الناس في المعارف الحديثة، فعلم الإنسان بما في بطن الأنثى إنما يكون بعد تكونه وحصوله، أما علم الله -عز وجل- فسابق على وجوده، فإنما يأمر الله الملك أن يشكله ذكرًا أو أنثى.
وما يظنه البعض من أن الإنسان إنما نوعه محدد قبل وجوده -أي: قبل وجود الجسد والأعضاء-، وأنه يمكن أن نعرف ذلك بأن تحلل -مثلاً- الخلايا، ويُعرف إذا كان ذكرًا أم أنثى؟ وظنوا أن ذلك يعارِض ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم-؛ فذلك بسبب قلة العلم، بل إنه كلما اتسع علم الإنسان؛ كلما علم صِدْق ما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم-.
فحقًا إن الإنسان إنما هيئ ليكون أحد النوعين منذ أن التقى الحيوان المنوي بالبويضة كان مهيئًا لأن يكون ذكرًا أو أنثى بحسب نوع "الكروموسومات" -كما يقولون- في الحيوان المنوي، أهي "كروموسومات" ذكر أم أنثى؟ ولكن مع ذلك لا يستطيع أحد أن يجزم بنوع الجنين في المراحل الأولى قبل تكون الأعضاء، وهو علم الغيب الذي استأثر الله -عز وجل- به.
وهذه "الكروموسومات" قابلة للتغير في الأسبوع السابع، كما اكتشفوا ذلك مؤخرًا؛ إذ يفرز نوع من الهرمونات والإنزيمات تتحكم في التشكيل بأمر الله -سبحانه وتعالى-، وهو الذي ينبني عليه تشكيل الأعضاء الذكرية أو الأنثوية، فإذا كان تركيب الجين أنثويًّا فإنه يترتب على هذا الهرمون أو الإنزيم أن تنمو الأعضاء الذكرية أو الأنثوية، فلو كان التركيب أنثويًا ولكن نقص هذا الهرمون فإنه يترتب عليه أن تنمو الأعضاء الذكرية ويصبح ذكرًا وإن كان تركيبه الجيني أو الكروموسومي تركيبًا أنثويًّا، وكذا بالعكس: لو كان تركيبًا ذكريًّا، ولكن نقص هذا الهرمون فإنه يترتب عليه تكوُّن الأعضاء التناسلية تكوّنًا أنثويًّا. فهذا الأمر عجيب للغاية! رغم أن الناس ظلوا لفترة ليست بالقصيرة يظنون أن مجرد تلقيح البويضة بحيوان منوي معين يترتب عليه تحديد جنس الجنين، فليس الأمر كذلك، بل هناك عوامل أخرى.
والعجيب.. أن ظهور هذا الأمر وظهور هذه العوامل الأخرى إنما يكون في الأسبوع السابع! مصداقًا لما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- حيث قال: «إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ ثِنْتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً؛ بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهَا مَلَكًا فَصَوَّرَهَا، وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعِظَامَهَا» [رواه مسلم].
فبعد اثنين وأربعين يومًا -أي: بعد ستة أسابيع بالضبط-، بعد هذا التاريخ يبدأ تشكيل الأعضاء الأنثوية أو الذكرية، فتشكل الأعضاء خلال الأيام والأسابيع الأولى موجود، ولكنه متماثل تمامًا بين الذكر والأنثى بلا أدنى فرق إلى أن يبدأ الأسبوع السابع فتبدأ الأعضاء في التغير، فهذا يتجه إلى الذكورة وذلك إلى الأنوثة.
والأغلب الأعم أنه بحسب التركيب المعتاد في النطفة الأولى، ولكن من الممكن أن يتغير، فمن الممكن أن يأخذوا عينة من الجنين وهو ذكر ويكون تركيب الخلايا تركيبًا أنثويًّا، وذلك لأنه في عمر الاثنين والأربعين يوم أو الستة أسابيع كانت نسبة هذا الهرمون مرتفعة، وكان تركيب الخلايا أنثويًّا، فلما زاد عنده؛ أصبحت خلاياه ذكرية وإن كان لا يلد ولا يكون مؤهلاً للولد، وإنما يكون عقيمًا.
فسبحان الله! كلما ازداد علم الإنسان بشيء؛ ازداد يقينًا بأنه يجهل، وأما الكفرة والزنادقة وأنصاف المتعلمين -بل أرباعهم، بل أدنى من ذلك- فهم الذين يظنون أن العلم الحديث أوشك أن يصنع ذبابًا! حتى إن كافرًا منهم في يوم من الأيام قال: "إن العلم الحديث أوشك أن يصنع ذبابًا"! وهذا من عظيم جهله؛ إذ إن العلم كلما تقدم يجزم أهله بأننا لا نستطيع أن نعمل شيئًا مثل صنع الله -سبحانه وتعالى-، ولا قليل منه، ولا أدنى من ذلك.
فالذي يستطيعه البشر هو أن يوفروا الظروف المهيئة؛ كي تستمر عملية الخلق كما أراد الله -عز وجل-، ومِن ثَمَّ فعلم الإنسان يجب أن يكون دافعًا له لزيادة إيمانه، فكلما ازداد علمًا؛ ازداد إيمانًا ويقينًا بأن هناك إتقان تام، وهذا لا يمكن أن يصدر عن صدفة -كما يزعمون بجهلهم-، ولكنه الطمس على البصيرة، ولولا ذلك؛ لكانت هذه العلوم بما في رحم كل أنثى وما تحمل وما تضع سبيلاً لإيمان من يؤمن، ولكن {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7].
فالإنسان إذا تأمل في قوله -تعالى-: {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} [فاطر: 11]، فلا ينبغي أن ينصرف خاطره إلى هذه الجزئية الصغيرة فقط -التي هي سبب الذكورة والأنوثة-؛ فضلاً على أن ذلك الأمر -أيضًا- قد أحاط الله -عز وجل- به علمًا، والبشر لا يعلمونه إلا بعد أن يكوِّنه الله، وبعد أن يقع كسائر المعلومات التي لا يعلمها الناس إلا بعد أن تقع، ولو علموا لم يعلموا منها إلا شيئًا يسيرًا شاء الله لهم أن يعلموه، فضلاً عن أنهم لا يعلمون عنها كل التفاصيل.
يقول الله -عز وجل-: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر: 11]، فأما النقص في العمر والزيادة فيه؛ فهذا من جنس ما لم يكن لو كان كيف يكون، نعني أنه نقص نسبي، وكذا الطول والتعمير، فقد يكون العمر نسبيًّا -أي: بالنسبة إلى ما كان يمكن أن يقع لو لم يكن ذلك بشيء-، فالله -عز وجل- يقدر الأمور بأسبابها، وهو أعلم بما يكون عليه الأمر لو لم تقع هذه الأسباب.
فهذا قد زاد الله في عمره؛ لأنه وصل رحمه، فعمره في علم الله الأول كذا من السنين الطوال، فالله قدَّر له في الأصل عمرًا بلا سبب، وآخر طويلاً بسبب أنه واصل لرحمه بار بوالديه، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ رِزْقُهُ، أَو يُنْسَأَ لَهُ فِي أَثَرِهِ؛ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» [متفق عليه].
ولو أطاع قوم نوح الله؛ لأخرهم إلى أجل مسمى، ولكنهم عصوا الله فنقصت أعمارهم عما كان من الممكن أن تكون لو أنهم أطاعوه.
ولو لم يعط آدم -عليه السلام- ابنه داود أربعين من سنة من عمره -كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح-؛ لظل عمره بلا نقصان.
فالأمور بأسباب، وبعضها بغير سبب، بل هي هبة من الله -عز وجل-؛ ولذلك نقول: "إن النقص هنا على حقيقته، ولكنه نسبي". والبعض يقول: "إن الزيادة والنقصان في البركة بزيادة البركة أو قلتها"، وهذا وإن كان صحيح المعنى، ولكن اللفظ يحتمل أوسع منه، وهو ما ذكرنا من معناه الحقيقي من التعمير، فالزيادة والنقصان حقيقة نسبة إلى ما كان يمكن أن يقع لو غيَّر الله هذه الأسباب، كما نقول -مثلاً-: ماذا لو لم يقتل القاتل المقتول؟ الله أعلم، فقد علم -سبحانه وتعالى- ما لم يكن لو كان كيف يكون؛ إلا أن مَن كتب الله عليه القتل فلا بد أن يخرج إلى مضجعه؛ ليقتل {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران: 154].
فإذا كان الله قد كتب القتل على الإنسان فنجا ممن يريدون قتله؛ لأدركه في النهاية واحد يقتله -لأنه مكتوب عليه القتل-، فلا بد أن ينال ما قدَّر الله له، وما كتبه -سبحانه وتعالى-، وأما إذا لم يقع ذلك كله فلا ندري؛ لأننا لا نعلم ما الذي كتبه الله -سبحانه وتعالى- لنا، فقد علم الله ما لم يكن لو كان كيف يكون!
فإذا سئلنا هذا السؤال الذي داعب أذهان البعض منا: "ماذا لو أن القتيل لم يقتله القاتل؟". فلا نقول: "كان مات وحده"، ولكن نقول: إنه من الممكن أن يموت وحده، أو يتأخر؛ لأن الله هو الذي يعلم أجله إذا لم يقتله القاتل.
فكل هذه الأمور مقدرة بأسبابها، والله -عز وجل- هو الذي أحاط علمه بذلك -سبحانه وتعالى-، وقد كتب ذلك في اللوح المحفوظ، فكتب مقادير الخلائق، وكتب أسبابها.
{إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [فاطر: 11].