الفجوةُ.. بينَ الشَّبابِ والعلماءِ
علماءُ الأمَّة الرَّبَّانيُّون، هم منارات الهدى، بما منَّ الله عليهم من علم نافع، يُعرف به الحلال من الحرام، والصَّواب من الخطأ، وهم الحصانة للأفراد، في السَّراء والضَّراء، ولهم فضلهم؛ إذ قال الله تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنَّما يتذكر أولو الألباب} [الزمر: 9].
وممَّا لا شكَّ فيه، أنَّ صحبتَهم من أقوى العوامل في إصلاح الفرد المسلم، وتعميق إيمانه، وتطبيع أخلاقه على الاعتدال، من غير إفراط ولا تفريط، وتثقيفه في أمور دينه، وإعداده روحيًّا وتكوينه تربويًّا. ولا يخفى على الجميع، أنَّ الشَّباب الصَّالح مصدر قوة للمجتمعات، فعليهم تعقد الآمال، وبإراداتهم الجادَّة، وسواعدهم المنتجة، تتحقَّق الطُّموحات السَّامية، فهم عماد الأمة وآمالها.
والشَّباب هم الشَّريحة الأكثر أهميَّة في أي مجتمع، وإذا كانوا اليوم يمثلون نصف الحاضر، فإنَّهم في الغد سيكونون كلَّ المستقبل، ومن هذه القاعدة، جاء القول بأنَّ الشَّباب عماد المستقبل، وبأنَّهم وسيلة التَّنمية وغايتها، فالشَّباب يسهِمون بدور فاعل، في تشكيل ملامح الحاضر، واستشراف آفاق المستقبل، والمجتمع لا يكون قويًّا إلا بشبابه، والأوطان لا تبنى إلا بسواعد شبابها، وعندما يكون الشَّباب مُعَدًّا بشكل سليم، وواعيًا ومسلحًا بالعلم والمعرفة، فإنَّه سوف يصبح أكثر قدرة على مواجهة تحدِّيات الحاضر، وأكثر استعدادًا لخوض غمار المستقبل.
ولذلك فإنَّ جميع الأمم والشُّعوب، تراهن دومًا على الشَّباب، في كسب رهانات المستقبل؛ لإدراكها العميق؛ بأنَّ الشَّباب هم العنصر الأساسيِّ، في أيِّ تحوُّلٍ تنمويٍّ ديمقراطيٍّ، سياسيٍّ، أو اقتصاديٍّ، أو اجتماعيٍّ، فهم الشَّريحة الأكثر حيويَّة وتأثيرًا في أي مجتمعٍ قويٍّ، تمثل المشاركة السِّياسيَّة فيه جوهر التَّكوين.
والحديث عن الشَّباب في مجتمعنا العربيِّ، هو حديث عن الحاضر والمستقبل؛ الذي يزخر بتحوُّلاتٍ سياسيَّة مهمَّة، تنتقل بشعوبنا إلى آفاق واسعة؛ لارتياد المستقبل وتحدياته، ومتطلباته التَّنمويَّة والدِّيمقراطية. والشَّباب في أمسِّ الحاجة، إلى تكوين مشاعر إيمانيَّة، وأخلاق دينيَّة، وثقافة إسلاميَّة، والعلماء بحاجة إلى معرفة أوضاع الشَّباب الخفيَّة؛ ليتداركوا الأخطاء، ويقيِّموا العثرات؛ لينهضوا بالأمَّة وبأمرها؛ فكلاهما صاحب حاجة، باختلاف قدر الحاجة. وإنَّ من أخطر المشكلات الاجتماعية أثرًا، تلك الفجوة التي نلحظها بين علماء الأمَّة وشبابها، ونخصِّص القول في علماء الأمَّة الرَّبَّانيين، لأنَّ علمهم هو المنشود لكلِّ مسلم، وثقافتهم هي الحصن الصَّائن لكلِّ مسلم غيور.
وإنَّ النَّاظر المتأمِّل في الرَّعيل الأوَّل، من سلف هذه الأمَّة، أقصد زمن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، ليجد أنَّهم كانوا من فئة الشَّباب، فرسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، كان عمره أربعين سنة عند البعثة، وأبو بكر رضي الله عنه، كان أصغر بثلاث سنين، وعمر رضي الله عنه، كان عمره سبعًا وعشرين سنة، وعثمان رضي الله عنه، كان أصغر من رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وعلي رضي الله عنه، كان أصغر من الجميع، وهكذا كان عبدالله بن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، والأرقم بن أبى الأرقم، وسعيد بن زيد، ومصعب بن عمير، وبلال بن رباح، وعمار بن ياسر، بل مئات، كلُّهم كانوا شبابًا، حملوا على كواهلهم أعباء الدَّعوة وبذلوا في سبيلها أسمى آيات الصَّبر والتَّضحية، وواصلوا ليلهم بنهارهم، حتَّى حقَّقوا لهذا الإسلام انتشاره وكيانه، ولهذا الدِّين انتصاره وتمكينه، فما بين عشيَّة وضحاها، قامت للمسلمين دولة وسلطان، وتأسست لهم حكومة وقيادة، وأخضعوا لحكمهم المملكتين العظيمتين: فارس والروم، وامتدَّ ظلُّهم إلى بلاد السِّند شرقًا، وإلى أرمينية وبلاد الروس شمالًا، ودخلت في عهدهم بلاد الشام، ومصر، وبرقة، وطرابلس، وبقيَّة أفريقيا، ذلك كلُّه في خمس وثلاثين سنة، هؤلاء هم شباب الماضي، وهذا ما قدَّموه للإسلام.
وأريد أن أقف، على كيفيَّة تعامل النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، مع صحابته الشَّباب..... كيف ربَّاهم؟!. وكيف تعايش معهم؟!. وكيف عالج مشكلاتهم؟!. وكيف نزل من مقام النُّبوَّة لمستوياتهم المختلفة، وإليك- أخي المسلم- بعض مواقفه مع الشَّباب:
الموقف الأوَّل: عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه، قال: كنت جالسًا عند النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، إذ أقبل أبو بكر آخذًا بطرف ثوبه، حتَّى أبدى عن ركبته، فقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «أمَّا صاحبُكم فقد غامر» فسلَّم، وقال: إنِّي كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه، ثمَّ ندمت، فسألتُه أن يغفر لي، فأبى عليَّ، فأقبلت إليك، فقال:«يغفر الله لك يا أبا بكر» ثلاثًا، ثمَّ إنَّ عمر ندم، فأتى منزل أبي بكر، فسأل: أثمَّ أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم فسلَّم، فجعل وجه النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم يتمعَّر، حتَّى أشفق أبو بكر، فجثا على ركبتيه، فقال: يا رسول الله!! والله أنا كنت أظلم، مرتين، فقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «إنَّ الله بعثني إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركوا لي صاحبي» مرتين، فما أوذي بعدها. رواه البخاري.
الموقف الثَّاني: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: هلك أبي، وترك تسع بنات، فتزوجت امرأة ثيبًا. فقال لي رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «تزوَّجت يا جابر؟» فقلت: نعم فقال: «أبكرا أم ثيِّبا؟» قلت: بل ثيِّبًا. قال:«فهلا جارية تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك؟» فقلت له: إن عبد الله هلك، وترك تسع بنات، وإنَّي كرهت أن أجيئهنَّ بمثلهنَّ، فتزوجت امرأة تقوم عليهنَّ، وتصلحهنَّ فقال: «بارك الله لك». رواه البخاري.
الموقف الثَّالث: عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيُخَالِطُنَا، حَتَّى يَقُولَ لأخٍ لِي صَغِيرٍ: «يَا أَبَا عُمير، ما فعلَ النُّغير». رواه البخاري في الأدب المفرد.
الموقف الرَّابع: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «يا معشر الشَّباب!! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنَّه أغضُّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع؛ فعليه بالصَّوم فإنَّه له وِجاء» متفق عليه.
الموقف الخامس: عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: كَسَعَ رجلٌ من المهاجرين رجلًا من الأنصار؛ فقال الأنصاريُّ: يا للأنصار!! وقال المهاجريُّ: يا للمهاجرين!!. قال: فسمع النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم ذلك فقال: «ما بال دعوى الجاهلية»؛ فقالوا: يا رسول الله!! رجل من المهاجرين كسع رجلًا من الأنصار فقال: «دعوها فإنَّها منتنة». فقال عبد الله بن أبي بن سلول: قد فعلوها، لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ. فقال عمر: دعني يا رسول الله!! أضرب عنق هذا المنافق. فقال: «دعْه لا يتحدث النَّاس، أنَّ محمدًا يقتلُ أصحابه» رواه ابن حبان، وصححه الألباني.
نعم هكذا يجب أن يعامل الشَّباب، تجلس معهم، تسمع منهم، تتحدث إليهم، تناقشهم، تحاورهم، تصبر على سلوكيَّاتهم، تشرف مباشرة على تصرفاتهم، لا تسفِّه آراءهم، ولا تقلل من شأنهم، ولا تجرح شعورهم..
إنَّ السَّبب الرَّئيس في حصول الفجوة بين الشَّباب والعلماء، هو بُعْدُ العلماءِ عن التَّعايش وسط الشَّباب، وجلوس العلماء في أبراج عاجيَّة، تقتصر مهمَّتهم على إلقاء الخطب والدُّروس، والإجابة عن بعض الأسئلة العامَّة التي توجَّه إليهم، وانتهى الأمر.
هذا السُّلوك السَّلبي من بعض العلماء، جعل الشَّباب يجفلون، ويبتعدون عن العلماء الرَّبَّانيين، وهذا يؤدِّي لأن يستفرد بالشَّباب دعاة الضَّلالة، وعلماء السُّوء، فيتولون تربيتهم على الضَّلال والانحراف، وعلى الخور والجبن، ويعطونهم فتات يسيرة، من علم مشبوه ركيك.
لذلك أخاطب العلماء الرَّبَّانيين قائلًا:
اتقوا الله في شباب الأمَّة، فإنَّهم أمانة في أعناقكم، أدُّوا دوركم تجاه الشَّباب كما يجب، وخذوا من الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم القدوة الصَّالحة، في معاملته للشَّباب، واهتمامه بهم، ومعايشته لهم، فهو معهم دائمًا، لا يفارقهم، ولا يفارقونه طرفة عين، معهم في السَّفر والإقامة، معهم في السِّلم والحرب، معهم في المسجد والشَّارع، معهم في مجلس سمرهم، نعم حتَّى معهم في سمرهم ولعبهم، فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم، خارج المدينة، وجلسنا تحت ظلِّ شجرة، فطلب النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم سواكًا، فارتقيت على شجرة الأراك لأجتني له سواكًا، فعصفت الرِّيح بساقاي، فانكشفتا، فجعل القوم يضحكون، من ساقيَّ، وكنت دقيق السَّاقين. فقال رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «ممَّ تضحكون؟!» قالوا: من دِقَّةِ ساقيه. فقال: «والذي نفسي بيده، لهما أثقل في الميزان، من جبل أحد» رواه أبو داود، وحسَّنه الألباني.
أيها العلماء: لا تستخفُّوا بقدرات الشَّباب، لا تقولوا فسد الشَّباب، لا تقولوا لا خير في شباب اليوم، فالخير كلُّه فيهم، وما الانحراف الموجود عند بعضهم؛ إلا بتقصيركم في رعايتهم، فانحرافهم يقع عليكم اللَّوم والعتب أكثر منهم، الشَّباب يفعلون المستحيلات، الشَّباب طاقات مهدورة في مجتمعاتنا اليوم، أمَّا عند السَّلف فالأمر مختلف، فأسامة بن زيد رضي الله عنه، يقود جيشًا عظيمًا، فيه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وهو ابن ثمانية عشرة سنة، عمر بن عبد العزيز رحمه الله، أصبح خليفة للمسلمين، وكان شابًّا تقيًّا وَرِعًا، اشتهر بالخلق الحسن، وكان عمره تقريبًا بضعًا وعشرين سنة، عبد الرحمن الدَّاخل، مؤسس الدَّولة الأمويَّة في الأندلس، كان عمره عشرين سنة، ربيعة الرَّأي، شيخ الإمام مالك رحمه الله، وكان عمره في الثَّلاثينيَّات، وكان معروفًا بالرَّأي الحسن، والمشورة الصَّائبة فسمِّي: ربيعة الرَّأي، سيبويه: العالم النَّحوي الكبير، مؤلف كتاب: الكتاب كان شابًّا، وعندما مات كان عمره ثلاث وثلاثون سنة. فاحذروا يا علماء الأمَّة التَّقليل من شأن الشَّباب.
إنَّه يجب أن يعامل الشَّباب من قبل العلماء، بروح الأبوَّة الحانية، والأخويَّة الراضية، إنَّ الشَّباب يجب أن يشعرهم العلماء بأنَّهم من الأمَّة، والأمَّة منهم، وهم فلذات أكبادها، وأمل حياتها ومستقبلها، وبذلك يدخل العلماء إلى الشَّباب من باب الحبِّ لهم، والإشفاق عليهم، لا من باب الاتِّهام لهم، والاستعلاء عليهم، يجب على العلماء أن يقفوا موقف المحامي عن الشَّباب، إذا وجهت إليهم سهام الاتِّهام بحقٍّ أو بباطل، ومع حسن نيَّة أو سوءها، وإذا لم يحسن العلماء، أن يقفوا موقف الدِّفاع عن الشَّباب لسبب أو لآخر، فليقفوا موقف القضاء النَّزيه العادل، الذي لا يدين أحدًا إلا ببيِّنة، ولا يتحيَّز لمدعٍ، أو مدعى عليه. ثمَّ إنَّ على الشَّباب ملازمة العلماء الرَّبَّانيين، والاستفادة منهم، والاستماع لنصحهم وإرشادهم، واستشارتهم في كلَّ صغيرة وكبيرة، ولا يقدموا على شيء يمَسُّ الأمَّة؛ إلا بعد الرُّجوع إلى العلماء، وأخذ رأيهم، والالتزام بما يقولون..
أختم مقالتي بقولين من أقوال السَّلف الصَّالح:
1- قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: لو أنَّ أهل العلم، صانوا العلم، ووضعوه عند أهله، سادوا به أهل زمانهم، ولكن!! بذلوه لأهل الدُّنيا لينالوا من دنياهم، فهانوا على أهلها. سمعت نبيَّكم صلى اللَّه عليه وسلم يقول:«من جعل الهمَّ همَّا واحدًا، همَّ آخرته، كفاه اللَّه عزَّ وجلَّ ما همَّه من أمر دنياه، ومن تشعَّبت به الهموم من أحوال الدُّنيا، لم يبالِ اللَّهُ في أي أوديتها هلك».
2- قال الإمام الجرجاني رحمه الله:
ولو أنّ أَهْلَ العلمِ صانوه صانهم *** ولو عظَّمُوه في النُّفوس لَعَظَّما
ولكن! أهانوه فهان، ودنَّسُـــــــــوا *** محيَّــــــــــاهُ بالأطمَاع حتَّى تجهَّما
الكاتب: سعد العثمان.
المصدر: موقع المسلم.